الاثنين، 17 ديسمبر 2012

بحث عن تأثير العرب فى نهضة الفكر الغربى

 لقد كانت سيادة العالم الفكرية ، في بدء عصور التاريخ ، للشرق ، حيث كانت تقطن الشعوب السامية ولاسيّما الآرامية . ومنه انتقلت إلى اليونان والرومان ، ولكنها لم تلبث أن عادت مرة أخرى، عن طريق السريان ومدارسهم المزدهرة ، إلى الشرق ، قُبيل ظهور الإسلام . ثمّ سادت الحضارة العربيّة الإسلاميّة ، بفضل سريان العالم الشرقي وبتشجيع من خلفاء بغداد . فالسريان هم الذين أخذوا الثقافة اليونانيّة من الإسكندريّة وإنطاكية ونشروها في الشرق وحملوها إلى مدارس الرُّها ونصيبين وحرّان وجند يسابور ، فالسلسلة ، كما يقول رينان ، متصلة الحلقات من المدرسة الإسكندرانية حتّى السريان ، ومن السريان إلى العرب ومن العرب إلى مسيحيّي القرون الوسطى.‏
وما أشبه حركة الترجمة اللاتينيّة بحركة الترجمة العربيّة التي سبقتها بقرنين ، فكما أنّ العرب أخذوا العلوم اليونانيّة عن طريق التراجمة السريان ومن خلال المدارس الفلسفيّة من الإسكندريّة وإنطاكية والرها ونصيبين وحرّان وغيرها ، كذلك أخذ اللاتين العلوم العربيّة عن طريق التراجمة اليهود ومن خلال مراكز الترجمات كطليْطلة (Toledo) في إسبانيا وبالرمو (Palermo) عاصمة صقلية.‏
وبالاستناد إلى ما ذكره ابن أبي أصَيبِعة ، في كتابه " عيون الأنباء في طبقات الأطباء ، وما أكّده المسعودي المعاصر للفارابي ، في كتابه : التنبيه والإشراف " ، نقلاً عن كتاب الفارابي المفقود" ظهور الفلسفة " فإن مجلس التعليم قد انتقل ، في مرحلة أولى ، من الإسكندرية إلى إنطاكية ، واستمر مقيماً فيها مئة وأربعين عاماً . ومن ثمَّ انتقل ، في مرحلة ثانيّة، إلى حرّان ، حيث بقي أربعين عاماً . وفي مرحلة ثالثة ، أي بين 892-902 ، انتقل مجلس التعليم إلى بغداد ، حيث أصبحت مدرسة الفكر متماسكة الحلقات تسير بنا من مدينة إلى أخرى حتّ‍ى عمّتِ العلوم أرجاء الإمبراطوريّة الإسلامية من المشرق العربي وحتّى مغربه.‏
أمّا الآن فكيف انتقلت هذه العلوم اليونانيّة أو العلوم اليونانيّة العربيّة أو العلوم العربيّة الخالصة إلى الغرب ؟‏
للإجابة عن هذا السؤال ، إليكم ما قاله الراهب البريطاني الفرنسيسكاني روجي باكون ، الذي بزّ جميع معاصريه في مدى إلمامه بتاريخ الفلسفة عند اليونان والعرب، والذي حاول في كتابه الأكبر Opus Majus ما ترجمته : وقد طمست فلسفة أرسطو وانقطع خبرها ، في الغالب ، إمّا لضياع مظانها أو ندرتها ، أو لصعوبتها أو للغيرة منها أو من جراء الحروب في الشرق ، حتّى مجيء محمّد (النبي) ، حين كشف ابن سينا وابن رشد وسواهما عن فلسفة أرسطو تلك وجلوها جلاء تاماً في شروحهم .. فقد ألّف ابن سينا ، الذي اقتدى بمذهب أرسطو ، وفسره ، وكمّل فلسفته بقدر المستطاع ، ثلاثة كتب فلسفية ، كما يقول في مقدّمة كتاب الشفاء ... وجاء بعده ابن رشد ، وهو من أرسخ الناس قدماً في الحكمة ، فنقّح أقوال الأوائل وأضاف إليها.‏
يدلُّ هذا النص ، بوضوح ، على أنّ ابنَ سينا وابنَ رشد ، من أهمّ الفلاسفة ، إن لم يكونا الوحيدين ، اللذين مكّنا علماء الغرب من مباشرة الثورة العلميّة التي ابتدأت ، فعلاً ، في القرن الثالث عشر وبلغت مرحلتها الأساسيّة في القرن السابع عشر.‏
ولهذا سنقتصر على أثر هذين المفكرين الكبيرين في الفكر اللاتيني : ابن سينا في المشرق العربي وابن رشد في المغرب العربي . ولكن قبل ذلك سنبحثُ في أهمّ سبلِ انتقال الفكر العربي إلى الغرب .‏
بدأت الترجمة من العربيّة إلى اللاتينية في القرن العاشر الميلادي ، دون أن تتوافر لها وسائل الجودة والإتقان ، ثمّ تحسنّت تحسناً ملحوظاً في القرنين الثاني عشر والثالث عشر ، وإن بقيت حرفيّة في الغالب . وكانت طليْطُلة وبالرمو مركزي الترجمة الهامين خلال هذين القرنين . وأنشئت في طُليْطلة مدرسة لتعليم اللغات الأجنبية : العبريّة والعربيّة واليونانيّة . ثمَّ رأى ريمون لول ( المتوفى، عام 1316) ضرورة إنشاء كُرسي للغات الأجنبيّة في مختلف الجامعات الأوربيّة.
أسّس ريمون الطُّليطُلي ، أسقف طُليْطلة المستنير ، مدرسة ، بهدف ترجمة أكبر عدد ممكن من النصوص العربيّة. وكانت هذه المدرسة مكوّنة من جماعات من المترجمين يترأس كلاً منها مُترجم يقودُ العمل ويراجع الترجمة التي كانت تتمُّ على مرحلتين : تُنْقل النصوص ، خلال المرحلة الأولى ، من العربيّة إلى اللغات المحلّية التي منها تُنْقلُ ، في مرحلة ثانية ، إلى اللغة اللاتينيّة . وعلى سبيل المثال . كان دومينيك غنديسالينوس (Gundissalinus) ، رئيس الشمامسة في هذه المدرسة يترجم إلى اللاتينية النصوص القشتاليّة التي كان ينقلها ، من العربيّة ، اليهودي المرتّد إلى المسيحيّة ابن داوود ، الملقّب بيوحنا الإسباني ، بمساعدة يهودي آخر هو سالومون . وإذا كان Gundissalinus قد وقف نفسه على الفلسفة وأدخل بعض الفلاسفة العرب إلى اللاتينيّة . فإنّ جيرارد الكريموني ، أحد هؤلاء المترجمين في طُليْطلة ، قد اهتمّ خاصةً بترجمة المؤلفات العلميّة .‏
أمّا بالرمو فقد نشطت فيها حركة الترجمةِ في القرن الثالث عشر تحت رعاية الإمبراطور فردريك الثاني الذي كان على صلة ببعض مفكري العرب ، والذي جدّ بدوره في جمع أكبر عددٍ من النصوص العربيّة ، وفي مقدّمتها شروح ابن رشد على أرسطو . كما أنّه دعا إلى ترجمتها وحاول ما في وسعه أن يَنْشُرَها في الجامعات الأوربيّة ، إيماناً منه بما اشتملت عليه الثقافةُ العربيةُ من درسٍ وبحث .‏
وهكذا امتدت الترجمات لتَشْمَلَ مؤلفات الفارابي والغزّالي ، بقدر ما شَمِلت ابن سينا وابن رشد ، وبشكل أوسع جداً امتدت إلى كتب علميّة عربيّة من رياضيّات وطبيعيّات وتاريخ طبيعي ، إلى كتب يونانيّة أفلاطونية وأرسطيّة . وفي مرحلة متأخرة ، قاد ميشيل سكوت ( المتوفَّى عام 1235) ، الذي درسَ في إكسفورد وتعلّم العربيّة في طُليْطلة ، حركة ترجمة نشيطة وواسعة ، فغذّى حركة الترجمة في بالِرمو بغذاء وافرٍ ، من بينه شروح ابن رشد التي تُرجمت إلى اللاتينيّة ولمّا يمضِ على موت مؤلّفها ربع قرنٍ .‏
في جو مشبع بالعقيدة الدينية الإسلامية ، وأفق مليء، بالأفكار الفلسفيّة الأرسطية المتأثرة ببعض الكتب اللاهوتيّة الأفلاطونية برز ابن سينا ( 980-1073 ) أول الفلاسفة العرب الأرسطييّن وأكثرهم إنتاجاً ، إذ شملت مؤلفاته الفلسفية الضخمة جميع نواحي الفكر آنذاك . ولم يتأخر طويلاً عبوره إلى أوروبة ، فلم يكد يمضي على وفاته نحو قرن حتى بُدىء بترجمته إلى اللغة اللاتينيّة . فتُرجمت موسوعة الشفاء بأقسامها الأربعة :‏
منطيقيّات ، طبيعيّات ، إلهيّات ورياضيّات ، ثمّ أجزاء من النجاة ومن الإشارات وبعض الرسائل الصغيرة . وبهذا استطاع اللاتين أن يَحْصُلوا على مراجعَ كاملةٍ لفلسفة ابن سينا . ومن الملاحظ أنّ إلهيّات ابن سينا قد وصلت إلى أوربة قبل ميتافيزيقا أرسطو بنصف قرن ، وقبل الكتابين الأخيرين الموسومين بحرفي " م " و " ن " بقرن كامل.‏
وإذا كان أرسطو قد سبق الفلاسفة العرب إلى الغرب في قسم من منطقه فقط ، المقولات والعبارة ، فإنّهم سبقوه إليه فيما تبقّى من كتبه المنطقيّة التي لم تصل الغرب إلاّ في القرن الثاني عشر ، وأيضاً في الكتب الطبيعيّة والميتافيزيقيّة والمدنيّة التي لم تصله إلاّ في نهاية القرن الثالث عشر وعن طريق العرب . وهكذا كانت فلسفة ابن سينا أول مذهب متكامل يصل إلى الغرب ويُنْعِشُ الفكرَ فيه . وكان تأثيرهُ في المفكرين إبّان القرون الوسطى، خاصة ألبرتو الكبير وتوما الإكويني ، كبيراً للغاية ، لا سيّما أنّ الترجمة اللاتينيّة لمؤلفاته إضافة إلى بعض كتب أرسطو المترجمة من العربية إلى اللاتينية مباشرة ، قد أدخلت فلسفة أرسطو إلى الأرض اللاتينيّة .‏
وابن سينا الفيلسوف عالمُ أيضاً في الرياضيّات والجيولوجيا والنبات والحيوان وعلم النفس والموسيقى . ولِعلمِهِ أثرُهُ وَصَداهُ في تاريخ العلم العربي بعامة والغربي بخاصة . وقد قدّر روجي باكون والبرتو الكبير موقف ابن سينا حق قدره من تلك القضية الخاطئة التي شاعت في التاريخ القديم والمتوسط لدى بعض الكيميائيّين الذين كانوا يزعمون أنّ في الإمكان تحويل المعادن الخَسيْسَة إلى معادن نفيسة . وقد أنكرَ ابن سينا هذا إنكاراً تاماً ، واستطاع أن يُصحِّح مسارَ البحثِ الكيميائي وأن يُمهِّدَ لعلم الكيمياء الحديث . وقال ابنُ سينا أيضاً ، مع بعض المفكرين السابقين ، بكرويّة الأرض ، فمهّد لأمثال كوبرنيك ( المتوفّى عام 1543) وجالايلي (المتوفّى عام 1642) وحاول في الجيولوجيا أن يوضّح كيفيّة تكوين الصخور والجبال ، وساعد على وضع نظرية البراكين التي عُرفت في القرن السابع عشر . ولم يَفُت فيلسوف اللغة العربيّة أن يستعينَ في بحوثه العلميّة بالملاحظة والتجربة ، ويمكن أن يُعَدَّ بهذا من بُناة المنهج التجريبي، وربما كان هذا من عوامل القُرْبَى بينه وبين روجي باكون .‏
وابن سينا طبيب أخيراً ، ومن كبار الأطباء العالميّين . وكتابه القانون أكبرُ موسوعة طبيّة وصلت إلينا من القرون الوسطى . ولم تكن شهرتُهُ عظيمة في الشرق فحسب ، حيث لايزال يدرَّس ويطبَّق في بلاد مثل إيران وباكستان ، بل تجاوزتْهُ إلى الغرب فترجم إلى اللاتينيّة في القرن الثاني عشر وَظلَّ أثرُهُ في أوربة دون منافس حتّى في القرن السابع عشر. وقد جاء في المجلة التي يَصْدُرها اليونسكو " بريد اليونسكو " - تشرين الأول 1980 - في أعلى الصفحة 38 ، أنّ كتابَ القانون بَقيَ يُدرَّسُ في جامعة بروكسل حتى في عام 1909 . وقد اعتمد ابنُ النفيس ، مكتشف الدورة الدموية الصغرى على هذا الكتاب عند شرحه له. واعترافاً بفضلِ أستاذه أطلقَ على كتابه الهام اسم " مُوجز القانون ".‏
كما أنّ نظريّة ابن سينا في الإبصار، وكان يرى أنّ العين ترى الأشياء بتضافر عنصرين أولهما دخول النور إليها وثانيهما خروج ما يحصل فيها من انفعالات ، أثّرت إلى حد كبير في نظريتي Roger Bacon , Robert Grossetette في الإبصار. وبتأثير من هذه النظرية السينويّة التوفيقيّة بين أفلاطون القائل بأنّ الإبصار هو مصادفة ما ترسله العين للأشياء الخارجيّة المرئية وبين أرسطو القائل بأنهاّ على العكس انفعالات في العين ، ميّز هذان الفيلسوفان بين الاحساسات الشخصيّة التي تصل بوساطة البصر وبين العملية الطبيعيّة التي فعلت هذه الإحساسات . وبتأثير من ابن سينا أيضاً تصوّر هذان الفيلسوفان الإحساسات تعاقباً من الأمواج أو النَبَضات تمرّ عَبْرَ وَسط شفاف . وبجانب هذا استقى Roger Bacon ، من وصف ابن سينا في القانون للعين ، نظريته الخاصة بتكوين الصورة من وراء العدسة ، كما استقى منه أنّ العدسة ليست كروية بل مسطّحة.‏
وأثر ابن سينا ، الذي كتب بالعربيّة كل كتبه إلاّ كتاباً واحداً كتبه بالفارسيّة هو " دانش نعمة " أي Livre de science ، أو كتاب العلم ، لم يقف عند هاتين اللغتين ، بل جاوزها إلى لغات شرقية أخرى ، كالكرديّة والتركيّة ولاسيّما العبريّة والسريانيّة ، وإلى لغات غربيّة كاللاتينيّة ، وكان له فيها أنصار وأتباع . وهنا سنبيّن أثر ابن سينا ، من خلال نظريتي المعرفة والوجود ، في الفلسفة اللاتينيّة في القرون الوسطى .‏
ونظرية المعرفة هي أولُ نظرية أثّرت في الفكر الغربي . فدومينيك غنديسالينوس ( المتوفى 1115) ، كتب بحثاً في النفس انطلق فيه من ابن سينا للوصول إلى القديس أوغسطينوس . وقد ورد في هذا البحث البراهين السينويّة على وجود النفس وعلى خلودها ، كما يَشهَدُ على ذلك برهان ابن سينا " الرجل الطائر " الذي لا يُبْصرُ أجزاءه ولا تتلامسُ أعضاؤه ، فإنّه قد يَغْفَلُ عن كلّ شيء إلاّ عن ثبوت وجوده ونفسه . وقد حظي هذا البرهان بتقدير فائق لدى رهبنة الفرنسيسكان . كما أنّه يَبْعَثُ على التفكير في الكوجيتو الديكارتي Cogito Ergo Sum . وقد ذهبَ بعضُ الباحثين إلى أنّه ليسَ ببعيد أن يكون ديكارت ، أبو الفلسفة الحديثة ، قد وقف على هذا البرهان في قراءاته اللاتينيّة .‏
وإذا كان غنديسالينوس ، في دراسته طبيعة النفس وعقولها المختلفة ، قد حافظ على التصنيف السينوي ، بما فيه العقل الفعّال ، فإنّه خالَفَهُ في أن يكونَ العقلُ الفعّال هو الذي يُنيرُ النفس ، بل حصر ذلك ، كما فعلَ أوغسطينوس ، بالخالق .‏
ومهما يكن من أمر فإنّ أيّ كتابٍ استمدهُ الغربُ من ابن سينا يَشْهَدُ أنَّ فيلسوفَنا قد أكملَ أرسطو، حول النفس والعالم والله، بأن أدخل في تركيبته الفكريّة مفاهيمَ أفلاطونيّة تناسبُ العقائدَ الدينيّة أكثر من النظريّات الأرسطية . وبتأثير من ابن سينا استعملَ اللاتين الفلسفة قاعدةً لتركيبةٍ فكريّة أرسطيّة - أفلاطونيّةٍ - صوفيّةٍ .‏
فهذا بيير الإسباني Pierre d ‘ Espqgne ، وقبلَ أن يُصْبِحً البابا يوحنا الحادي والعشرين ، ألّف كتاباً في النفس Libre de Anima تَرَكَ فيه نظريّةً في المعرفة مماثلةً تماماً لتلك التي قال بها ابنُ سينا في كُتبه النفسيّة .‏
وإذا نظرنا إلى ذلك الكتاب المنحول " في العقول" الذي طُبِعَ في فينيسيا و أسنِدَ إلى ابن سينا عند جمْعِهِ مع مؤلفاته ، فإننا نلاحظ أنّه يحتوي - بالإضافة إلى استشهادات عديدة لدنيس وأوغسطينوس وسكوت وغيرهم - على نظرية ابن سينا في النفس والعقل بقسميه الفاعل والمنفعل . بيد أنّ العقل الإنساني المنفعل يكتسبُ المعرفة لابفضل أنوار العقل الفعّال ، كما اعتقدَ ابن سينا ، بل بفضلِ الإشراقات الإلهيّة ، كما اعتقد القديس أوغسطينوس .‏
وإذا كان أوغسطينوس لاهوتيّاً فيلسوفاً استعملَ الفلسفة خدمة للاهوت ، خلافاً لابن سينا الذي كان فيلسوفاً عقلانياً ، فإنّ كليهما قد تأثّرَ بالأفلاطونيّة الجديدة . والعلاقات التي يمكن إقامتُها بينهما هي السبب في التأثير العميق الذي مارسَهُ ابن سينا في فكر المدرسة الفرنسيسكانيّة .‏
وصفوة القول أنّ لنظريّة المعرفة السينويّة تأثيراً واضحاً ، خلال قرن ونصف في فلاسفة القرون الوسطى ، مع أنّهم لم يُبيّنوا ما أخَذَهُ كلٌّ منهم من ابن سينا . وإذا كان الإكويني ، الراهب الدومينيكاني ومنظّر العقيدة الكاثوليكيّة ، قد خالف ابن سينا في موضوع العقل الفعّال وفي مواضيع أخرى متعلقة بالتجريد وغيرها ، فإنّه وافقه في أمر الصور المعقولة الخاصة بالمعرفة العقليّة . كما أنّه أخذ عنه مفهوم الحقيقة بصفتها تطابق الفكر مع الواقع .‏
إنّ مشكلة المعرفة تؤدي حتماً إلى مسألة الموجود، موضوع العلم الميتافيزيقي ، للعلاقة الوثيقة بينهما ولارتباط الموجود بالعقل . وفي فلسفة الموجود مارس ابن سينا أثراً كبيراً في الفلاسفة اللاتينيّين حتّى إنّه لايوجد أي فيلسوف ليس مديناً له بشيء مافي هذا الموضوع . لقد عُرف ابن سينا ، في القرون الوسطى ، بل في أيامنا هذه ، أنّه فيلسوف الموجود وكاشف له كمعقول مرتبط ارتباطاً مباشراً بالعقل، أو كما يقول ابن سينا نفسه ، في غير مكان : إنّه أولى الأشياء التي ترتسم معانيها في النفس ارتساماً أولياً ، أو هو - كما يؤكد الإكويني غير مرّة ، مردّداً بذلك قول ابن سينا ومتأثّراً به. Primo in itellectus cadit ens " .‏
ونظرية الموجود السينويّة هذه كانت مصدر أبحاث خلال أكثر من قرنين ، وبقيت بعض نتائجها خالدةً ، إذ تطوّرت في اتجاهين مختلفين : فمن ناحية ، حاولت هذه النظرية إقامة الموجود بمعناه الواحد وتفاوت درجاته على طريق التمييّز الواقعي ، بين الذات والوجود، بين المعلول والعلّة ، بين المتأخر والمتقدم ، بين الممكن والواجب ، وأخيراً بين القوّة والفعل : ومن ناحية أخرى ، حاولت إثبات التعددّية في الوجود عن طريق النظام الكوني .‏
وفي هذا المجال وقف الشيخ الرئيس عند قضايا فلسفية: الموجود ، إدراك العقل له ، أقسامه : وقضايا لا هوتية كبرى : أصل العالم ، الذات الإلهية صفاتها وصلتها بخالقها. وكانت هذه القضايا الشغل الشاغل لمفكري القرون الوسطى اللاتينيّن من فلاسفة ولاهوتييّن ، ولاسيما البيرتو الكبير وتوما الإكويني ، وأثّرت فيهم تأثيراً ملحوظاً . وأهميّة ابن سينا هذه من الأسباب التي حملت روجي باكون على القول إنّ المعرفة قد انتقلت إلى العالم مرتين بشكل تام باللغة العبريّة ، الأولى عن طريق الأنبياء ، والثانية عن طريق سليمان الحكيم ؛ ومرتين أخريين بشكل غير تام ، الأولى عن طريق أرسطو وباللغة اليونانيّة ، والثانية عن طريق ابن سينا وباللغة العربيّة .‏
ولم يقف أثرُ ابن سينا في الغرب ، عند القرون الوسطى ، بل جاوزها ، إلى عصر النهضة والتاريخ الحديث . وسَبَقَ أن أشرنا إلى ما يبدو من تلاقٍ بين " الرجل الطائر" عند ابن سينا و " الكوجيتو الديكارتي " وَعُقدَت صلاتٌ أخرى بين الفيلسوف الإسلامي وباسكال وسبينوزا وليبنتز . وقد تمّ أخيراً كشف ثلاث صور مجتمعة على حوائط مكتبة بودلين بإكسفورد ، أثناء ترميمها ، وهي لأفلاطون ولأرسطو وابن سينا ، وهذا ولا شك له دلالته ، وفي تاريخنا المعاصر لايزال ابن سينا يشغلُ الأذهان شرقا وغرباً ، فتُرجمت كُتُبُه إلى اللغات الحيّة ، وشجّع اليونسكو على هذه الترجمة .‏

هناك تعليق واحد:

  1. تجارب xlntrade، تعد شركة Xlntrade هي منصة خاصة بالتداول وتجارة الفوركس

    ردحذف