الاثنين، 17 ديسمبر 2012

بحث عن أهمية معرفة أسماء الله سبحانه وتعالى وصفاته

 معرفة أسماء الله سبحانه وتعالى وصفاته عليها مدار الإيمان، فهي ركن من أركان التوحيد وذروة سنــــام العبوديــــة ..
والإيمان بأسماء الله وصفاته يقتضي: معرفة الله سبحانه وتعالى بصفاته الواردة في القرآن والسُّنَّة الصحيحة، وإثبــــات لله ما أثبته لنفسه من غير تمثيــل، ولا تكييف ولا تعطيل، ولا تحريف
والعلم بالله تعالى وأسمائه وصفاته هو أشرف العلوم وأوجبها ..
يقول الإمام ابن القيم "إحصاء الأسماء الحسنى والعلم بها أصل للعلم بكل معلوم، فإن المعلومات سواه إما أن تكون خلقًا له تعالى أو أمرًا .. إما علم بما كونه أو علم بما شرعه ومصدر الخلق والأمر عن أسمائه الحسنى وهما مرتبطان بها ارتباط المقتضى بمقتضيه فالأمر كله مصدره عن أسمائه الحسنى" [بدائع الفوائد (273:2)]
فمن يُمعِن النظر في أسرار هذا العلم يقف على ريــــاض من العلم بديعة، وحقائق من الحِكَم جسيمة .. ويحصل له من الآثــار الحميدة ما لا يُحــاط بالوصف ولا يُدرك إلا لمن يُرزق فهمها ومعرفتها .. ومنها أنه:
إذا علم العبد ربَّه وامتلأ قلبه بمعرفته، أثمرت له ثمرات جليلة في سلوكه وسيره إلى الله عزَّ وجلَّ.
وتأدب معه ولزم أمره واتبع شرعه، وتعلَّق قلبه به وفاضت محبته على جوارحه، فلهج لسانه بذكره، ويده بالعطاء له، وسارع في مرضاته غاية جهده، ولا يكاد يمل القرب منه سبحانه وتعالى .. فصار قلبه كله لله ولم يبق في قلبه سواه .. كما قيل:
قَدْ صِيْغَ قَلْبِيْ عَلَىَ مِقْدَارِ حُبِّهِمْ .... فَمَا لِحُبِّ سِوَاهُمْ فِيْهِ مُتَّسَعْ
ومن أحب الله لم يكن عنده شيء آثر من الله ..
والمحب لا يجد مع الله للدنيا لذة، فلم يثنه عن ذلك حب أهل أو مال أو ولد؛ لأن هذه وإن عظمت محبتها في قلبه إلا أنه يدرك أنها بعض فضل الله عليه .. فكيف يشتغل بالنِعَم وينسى المُنعِم؟!
ومنزلة العبد عند الله سبحانه وتعالى على قدر معرفته به ..
لذلك اختصت آية الكرسي بكونها أعظم آية في القرآن؛ لأنها أشتملت على أعظم أسماء الرحمن .. وعدلت سورة الإخلاص ثلث القرآن؛ لاشتمالها على اسمه الأحد الصمد الذي يُقصد لذاته وليس له نظير ولا مثيل سبحانه وتعالى.
ومن أحبَّها أحبَّه الله ..
كما في قصة الرجل الذي بعثه النبي على سرية وكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم فيختم بــ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] .. فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي ، فقال "سلوه لأي شيء يصنع ذلك؟". فسألوه، فقال: لأنها صفة الرحمن، وأنا أحب أن أقرأ بها. فقال النبي "أخبروه أن الله يحبه" [متفق عليه]
كما أن من عمل بها وحقق ما تقتضيه من فِعْل المأمورات وترك المحظورات، كان من المقربين الذين أحبهم الله وتولاهم.
وكلما أدام ذكرها بقلبه ولسانه، أوجب ذلك له دوام مراقبته وشاهد ربَّه بعين بصيرته ..
فاستحيى منه، وانكسر له، فيصير يعبد الله على الحضور والمراقبة، وهي أعلى مقامات الدين ..
يقول ابن القيم "وإذا بلغ العبد في مقام المعرفة إلى حد كأنه يطالع ما اتصف به الربَّ سبحانه من صفات الكمال ونعوت الجلال وأحست روحه بالقرب الخاص الذي ليس هو كقرب من المحسوس حتى يشاهد رفع الحجاب بين روحه وقلبه وبين ربِّه .. فإن حجابه هو نفسه وقد رفع الله سبحانه عنه ذلك الحجاب بحوله وقوته، أفضى القلب والروح حينئذ إلى الربِّ فصار يعبده كأنه يراه" [مدارج السالكين (3:221,222)]
والتعرُّف على أسماء الله تعالى يسلم الإنسان من آفات كثيرة ..
كالحسد، والكبر، والريـــاء والعجب .. كما قال ابن القيم "لو عرف ربَّه بصفات الكمال ونعوت الجلال، وعرف نفسه بالنقائص والآفات، لم يتكبَّر ولم يغضب لها ولم يحسد أحدًا على ما آتاه الله. فإن الحسد في الحقيقة نوع من معاداة الله، فإنه يكره نعمة الله على عبده وقد أحبها الله، ويحب زوالها عنه والله يكره ذلك. فهو مضاد لله في قضائه وقدره ومحبته وكراهته" [مدارج السالكين (1:172)]
كما إن أنوار الأسماء والصفــات تُبدد حُجُب الغفلة ..
قال تعالى {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (*) وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ..} [الأعراف: 179,180] .. فلكي تتخلص من تلك الحُجُب، عليك أن تدعوه بأسمائه وصفاته.
ومن أعظم آثارها: أن من قام في قلبه حقائق هذه الأسماء، وتراءت معانيها لناظريه كان أعظم الناس تحقيقًا للتوحيد، وأكملهم عبودية لربِّ العالمين ..
يقول الإمام ابن القيم "الأسماء الحسنى والصفات العلا مقتضية لآثارها من العبودية: والأمر اقتضاءها لآثارها من الخلق والتكوين فلكل صفة عبودية خاصة هي من موجباتها ومقتضياتها أعنى من موجبات العلم بها والتحقق بمعرفتها وهذا مطرد في جميع أنواع العبودية التي على القلب والجوارح.
فعلم العبد بتفرد الربِّ تعالى بالضر والنفع والعطاء والمنع والخلق والرزق والإحياء والإماتة، يثمر له عبودية التوكُّل عليه باطنًا ولوازم التوكل وثمراته ظاهرًا.
وعلمه بسمعه تعالى وبصره وعلمه وأنه لا يخفى عليه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض وأنه يعلم السر وأخفى ويعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور، يثمر له حفظ لسانه وجوارحه وخطرات قلبه عن كل ما لا يرضى الله وأن يجعل تعلق هذه الأعضاء بما يحبه الله ويرضاه فيثمر له ذلك الحياء باطنًا، ويثمر له الحياء اجتناب المحرمات والقبائح ..
ومعرفته بغناه وجوده وكرمه وبره وإحسانه ورحمته، توجب له سعة الرجاء وتثمر له ذلك من أنواع العبودية الظاهرة والباطنة بحسب معرفته وعلمه.
وكذلك معرفته بجلال الله وعظمته وعزه، تثمر له الخضوع والاستكانة والمحبة .. وتثمر له تلك الأحوال الباطنة أنواعًا من العبودية الظاهرة هي موجباتها، وكذلك علمه بكماله وجماله وصفاته العلى يوجب له محبة خاصة بمنزلة أنواع العبودية فرجعت العبودية كلها إلى مقتضى الأسماء والصفات وارتبطت بها ارتباط الخلق بها" [مفتاح دار السعادة (90:2)]
فالذي يكمُل علمه بالأسماء والصفات هو العبد الرباني بحق،،
ولذلك كله كان إحصاء أسماء الله تعالى من أعظم موجبات الجنــــة ..
كما قال رسول الله "إن لله تعالى تسعة وتسعين اسمًا مائة إلا واحدًا، من أحصاها دخل الجنة"[متفق عليه]
وإحصـــاء الأسماء والصفات يكون من خلال:
1) حفظها .. بأن يستودعها قلبه ..
2) معرفة معانيها .. فيتعلم معانيها وكيفية عبادة الله عزَّ وجلَّ بمقتضاها ..
3) العمل بمقتضاها .. فإذا علم أنّه الأحد فلا يُشرك معه غيره، وإذا علم أنّه الرزّاق فلا يطلب الرّزق من غيره، وإذا علم أنّه الرحيم، فإنه يفعل من الطاعات ما يجلب له هذه الرحمة، وهكذا .. فيتعلَّق القلب بمعاني الجلال بأن يذل وينكسر، ومعاني الجمال بأن يُحب ويُقبل على الله سبحانه وتعالى.
4) دعاؤه بها .. كما أمرنا الله جلَّ وعلا { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ..} [الأعراف: 180].
والدعــاء على مرتبتين إحداهما: دعاء ثناء وعبادة، والثاني: دعاء طلب ومسألة .. فلا يثنى عليه إلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى وكذلك لا يسأل إلا بها.
يقول ابن القيم "ولما كان سبحانه يحب أَسمائه وصفاته، كان أَحب الخلق إِليه من اتصف بالصفات التى يحبها، وأَبغضهم إِليه من اتصف بالصفات التى يكرهها، فإِنما أبغض من اتصف بالكبر والعظمة والجبروت لأَن اتصافه بها ظلم، إِذ لا تليق به هذه الصفات ولا تحسن منه، لمنافاتها لصفات العبيد، وخروج من اتصف بها من ربقة العبودية ومفارقته لمنصبه ومرتبته، وتعديه طوره وحدَّه، وهذا خلاف ما تقدم من الصفات كالعلم والعدل والرحمة والإِحسان والصبر والشكر فإِنها لا تنافى العبودية، بل اتصاف العبد بها من كمال عبوديته" [طريق الهجرتين (19:23)]
فعلى العبد أن يتخلَّق بصفات الجمـــال ..
الله سبحانه وتعالى رحيـــم: ارحم تُرحم .. الله عفو: اعفُ يُعف عنك .. الله حليـــم: أحلم يُحلَم عليـــك ..
أما صفات الجلال، فيُنزه نفسه عن مشاكلة الله عزَّ وجلَّ بها ..
الله عزَّ وجلَّ عزيـــز: أنت ذليــــل .. الله مُتكبِّر: أنت متواضع .. وهكذا.
5) التحقق .. بأن ينظر في الآفــاق ويتفكَّر في آلاء الله سبحانه وتعالى؛ كما أمرنا النبي ، فقال "تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله" [حسنه الألباني، صحيح الجامع (2975)] .. أي: تفكروا في خلق الله ولا تتفكروا في ذات الله سبحانه وتعالى .. والقاعدة في كل ذلك قول الله تبارك وتعالى:
{.. لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]
تَــــــأَمَّلْ سُطُوْرَ الْكَائِنَاتِ فَإِنَّهَا ... مِنَ الْمُلْكِ الْأَعْلَىَ إِلَيْـــــكَ رَسَــــائِلُ
وَقَدْ خَطَّ فِيْهَا لَوْ تَأَمَّلْتَ خَطَّهَا ... أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا الْلَّهَ بَــاطَلَّ
وفيما يلى شرح لثلاثه من اسماء الله عز وجل

أولاً اسم الله المحيط
اسم من أسماء الله تعالى، وصفة من صفاته، حيث قال تعالى:{وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ} [البقرة: من الآية19]، وقال:{وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} [البروج:20]، وقال:{لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} [الطلاق: من الآية12].
قال قوّام السنّة الأصبهاني في "الحجّة في بيان المحجّة" (1/163-164):
" المحيط هو: الذّي أحاطت قدرته بجميع خلقه، وهو الّذي أحاط بكلّ شيء علما، وأحصى كلّ شيء عددا ".
وقال البيهقي في "الاعتقاد" (ص68):" المحيط هو الّذي أحاطت قدرته بجميع المقدورات، وأحاط علمه بجميع المعلومات ".
ونلاحظ أنّ هذه الصّفة قد قصروها على القدرة والسّمع والبصر، وغيرهم عمّم وهو الأولى.
فقد قال السّعدي في "تفسيره":
" وهو الّذي أحاط بكلّ شيء علما، وقدرة، ورحمة، وقهرا، وقد أحاط علمه بجميع المعلومات، وبصره بجميع المُبْصَرات، وسمعه بجميع المسموعات، ونفدت مشيئته وقدرته بجميع الموجودات، ووسعت رحمته أهل الأرض والسّماوات، وقهر بعزّته كلّ مخلوق، ودانت له جميع الأشياء ".
* ثمرات الإيمان بهذا الاسم:
1- لا شكّ أنّ هذا الاسم يؤكّد ثبوت الكمال المطلق لله تعالى في: العلم، والسّمع، والبصر، والقدرة، والرّحمة، فإذا استحضر العبد معناه الشّامل تحصّل لديه ما يحصّله من فهم معاني الأسماء الأخر.
2- إنّ هذا الاسم الكريم يربّي في قلب العبد من المهابة لله ما لا يخفى، ففيه التّرغيب في التوكّل عليه والوثوق به، والتّرهيب من عصيان أمره، والغفلة عن ذكره.
ألا ترى أنّ الله تعالى غالبا ما يختم آيات الوعد والوعيد بهذا الاسم الكريم ؟
قال عزّ وجلّ بعد ذكر العصاة والمذنبين:{إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران: من الآية120].
وقال مؤنّسا أولياءه:{وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ} [الإسراء: من الآية60] وتفاسير السّلف لهذه الآية كلّها في هذا المعنى.
قال ابن عبّاس رضي الله عنه: النّاس هنا أهل مكّة، وإحاطته بهم إهلاكُهُ إيّاهم.
أي: إنّ الله سيهلكهم، وإنّما ذكره الله بلفظ الماضي لتحقّق وقوعه. وعنى بهذا الإهلاك الموعود: ما جرى يوم بدر ويوم الفتح.
وقال مجاهد وابن أبي نجيح: معنى أحاط بالنّاس: أي أحاطت قدرته بهم، فهم في قبضته، لا يقدرون على الخروج من مشيئته.
وقال الحسن وعروة وقتادة: المراد عصمة نبيّه صلّى الله عليه وسلّم من النّاس أن يقتلوه، حتّى يبلِّغ رسالة ربّه، أي: وما أرسلناك عليهم حفيظا، بل عليك التّبليغ، فبلِّغ، فإنّا نعصمك منهم، فقدرتنا محيطة بهم.
3- وعلى العبد أن يستيقن أنّه بين يدي الله، يتصرّف في قلبه، وفي جسده كما شاء بما شاء، فعليه أن يُحسن أقواله وأفعاله، فهو به محيط، وأنّه لا مفرّ منه طرفة عين ولا أقلّ من ذلك.

ثانياً : اسم الله القريب
ذكر الاسم فى القرءان:
1) قال تعالى: "وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ" (البقرة : 186 )
2) "وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ" (هود : 61 )
3) " قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ " (سبأ : 50 )
قال ابن جرير في قوله :{ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي}(البقرة):189
يعني تعالى ذكره بذلك :وإذا سألك يامحمد عبادي عني أين أنا ؟ فإنني قريب منهم أسمع دعائهم وأُجيب دعوة الداعي منهم . وقال في قوله: { إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيب}.(هود:61): يقول :إن ربي قريب ممن أخلص له العبادة, ورغب إليه في التوبة مجيب له إذا دعاه . وفي قوله:{ إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ}.(سبأ:50) ال :إن ربي سميع لما أقول لكم حافظ له وهو المجازي لى على صدقي في ذلك ,وذلك مني غير بعيد فيتعذر عليه سماع مااقول لكم وما تقولون وما يقوله غيرنا ,ولكنه قريب من كل متكلم ,يسمع كل ماينطق به ,أقرب إليه من حبل الوريد .
وقال الزجاجي (القريب) في اللغة على اوجه :
القريب الذى ليس ببعيد ,فالله عزوجل قريب ليس ببعيد كما قال عزوجل :{ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}.(البقرة 186)
أى :أنا قريب الإجابة ,وهو مثل قةله عزوجل:{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَبَصِيرٌ }(الحديد:4)
وكما قال عزوجل:{ الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا}(المجادلة:7).وكما قال عزوجل :{ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ }(ق:16)وكما قال :{ } وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ }(الزخرف:84)والله عزوجل محيط بالأشياء كلها علماً بكل شيء لايعزب عنه منها شيء ,وكل هذا يراد به -والله اعلم - إحاطة علمه بكل شيء ,وكون كل شيءتحت قدرته وسلطانه وحكمه وتصرفه ,ولايراد بذلك قرب المكان والحلول في بعضه دون بعض جل الله وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً
وقال الخطابي :( القريب)معناه :أنه قريب بعلمه من خلقه ,قريب ممن يدعوه بالإجابةكاقوله تعالى:} وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}.
قال ابن القيم :وهو القريب وقربه المختص*** بالداعي وعابده على الإيمان
قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى:( القريب المجيب )أى هو تعالى القريب من كل أحد ,وقربه تعالى نوعان:
قرب عام : من كل أحد بعلمه وخبرته ومراقبته ومشاهدته وإحاطته .
وقرب خاص : من عابديه وسائليه ومحبيه ,وهو قرب لاتُدرك له حقيقة ,وإنماتعلم آثاره من لطفه بعبده وعنايته به وتوفيقه وتسديده ومن آثاره الإجابة للداعين ,والغنابة للعابدين.فهو(المجيب )إجابة عامة للداعين مهما كانوا وأينما كانوا وعلى أى حال كانوا ,وكما وعدهم بهذا الوعد المطلق ,وهو (المجيب ) إجابة خاصة للمستحبين له المنقادين لشرعه ,وهو (المجيب ) أيضاُ للمضطرين ومن انقطع رجاؤه ممن المخلوقين ,وقوي تعلقهم به طمعاً ورجاءً وخوفاً قال ابن عثيمين رحمه الله تعالى في رده على أهل التحريف.
قال أهل التأويل : "أنتم يا أهل السنة أولتم قوله تعالى : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُم)(الواقعة: من الآية85) . إلى أن المراد أقرب بملائكتنا و هذا تأويل ، لأنا لو أخذنا بظاهر اللفظ لكان الضمير (نَحْنُ) يعود إلى الله ، و أقرب خبر المبتدأ ، و فيه ضمير مستتر يعود على الله ، فيكون القرب لله – عز وجل -، و معلوم أنكم أهل السنة لا تقولون بذلك ، لا تقولون إن الله تعالى يقرب من المحتضر بذاته حتى يكون في مكانه ، لأن هذا أمر لا يمكن أن يكون ، إذ أنه قول أهل الحلول الذي ينكرون علو الله – عز وجل –، و يقولون إنه بذاته في كل و أنتم أهل السنة تنكرون ذلك أشد الإنكار . إذن ما تقولون أنتم يا أهل السنة ألستم تقولون نحن أقرب إليه أي إلى المحتضر بملائكتنا ، أي الملائكة تحضر إلى الميتو تقبض روحه ؟! هذا تأويل ، قلنا الجواب على ذلك سهل و لله الحمد ، فإن الذي يحضر الميت هم الملائكة (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ)(الأنعام: من الآية61) . (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِم ْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُم)(الأنعام: من الآية93) . فالذي يحضر إلى المحتضر عند الموت هم الملائكة ، وأيضاً في نفس الآية ما يدل على أنه ليس المراد قرب الله – سبحانه وتعالى – نفسه فإنه قال : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ) (الواقعة:85) . فهذا يدل على أن هذا القريب الحاضر ، لكن لا نبصره ، وكذلك لأنك الملائكة عالم غيبي الأصل فيهم الخفاء وعدم الرؤية . وعلى هذا فنحن لم نخرج بالآية عن ظاهرها لوجود لفظٍ فيها يعين المراد ، ونحن على العين والرأس ، والقلب نقبل كل شيء كان بدليل من كتاب الله ، ومن سنة رسوله صلى الله عليه و سلم.
أنتهي كلامه رحمه الله قرب الله عزوجل فى السنة المكرمة وأقوال أهل العلم :
(1)قال الإمام أحمد: عن أبي موسى الأشعري, قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة, فجعلنا لا نصعد شرفاً ولا نعلو شرفاً ولا نهبط وادياً, إلا رفعنا أصواتنا بالتكبير, قال: فدنا منا, فقال "يا أيها الناس, اربعوا على أنفسكم, فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً, إنما تدعون سميعاً بصيراً, إن الذي تدعون أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته, يا عبد الله بن قيس, ألا أعلمك كلمة من كنوز الجنة ؟ لا حول ولا قوة إلا بالله" أخرجاه في الصحيحين وبقية الجماعة من حديث أبي عثمان النهدي واسمه عبد الرحمن
(2) -عن أبو هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قال الله تعالى أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه". (قلت) وهذا كقوله تعالى: "إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون",
وقوله لموسى وهارون عليهما السلام "إنني معكما أسمع وأرى" والمراد من هذا أنه تعالى لا يخيب دعاء داع, ولا يشغله عنه شيء, بل هو سميع الدعاء, ففيه ترغيب فالدعاء, وأنه لا يضيع لديه تعالى.
(3)-سأل جماعة النبي صلى الله عليه وسلم أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه فنزل: " وإذا سألك عبادي عني فإني قريب " منهم بعلمي فأخبرهم بذلك " أجيب دعوة الداع إذا دعان " بإنالته ما سأل " فليستجيبوا لي " دعائي بالطاعة " وليؤمنوا " يداوموا على الإيمان " بي لعلهم يرشدون " يهتدون.
قال ابن تيمية في قرب الله تعالى
"وقد دخل في ذلك الإيمان بأنه قريب مجيب كما جمع بين ذلك في قوله : " وإذا سألك عبادي عني فإني قريب " الآية - وقوله - صلى الله عليه وسلم - : " إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحته " وما ذكر في الكتاب والسنة من قربه ومعيته ، لا ينافي ما ذكر من علوه وفوقيته فإنه سبحانه ليس كمثله شئ في جميع نعوته ، وهو عال في دنوه قريب في علوه".
وقال ايضاً شيخ الإسلام في العقيدة الوسطيه
في قوله وهو معكم أينما كنتم
وقد دخل فيما ذكرناه من الإيمان بالله الإيمان بما أخبر الله به في كتابه وتواتر عن رسوله وأجمع عليه سلف الأمة من أنه سبحانه فوق سماواته على عرشه بائن على خلقه ، وهو سبحانه معهم أينما كانوا يعلم ما هم عاملون كما جمع بين ذلك في قوله : " هو
الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير " .
وليس معنى قوله : " وهو معكم " أنه مختلط بالخلق فإن هذا لا توجهه اللغة ، بل القمر آية من آيات الله من أصغر مخلوقاته ، وهو موضوع في السماء ، وهو مع المسافر وغير المسافر أينما كان .
وهو سبحانه فوق عرشه رقيب على خلقه مهيمن عليهم مطلع عليهم إلى غير ذلك من معاني ربوبيته ، وكل هذا الكلام الذي ذكره الله - من أنه فوق العرش وأنه معنا - حق على حقيقته لا يحتاج إلى تحريف ، ولكن يصان عن الظنون الكاذبة مثل أن يظن أن ظاهر قوله ( في السماء ) أن السماء تظله أو تقله ، وهذا باطل بإجماع أهل العلم والإيمان ، فإن الله قد وسع كرسيه السموات والأرض وهو يمسك السموات والأرض أن تزولا ، ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه ، ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره
وقال أيضاً في الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان
معية الله بعلمه لا بذاته وهي عامة وخاصة
وأما قوله: " وهو معكم " فلفظ " مع " لا تقتضي في لغة العرب أن يكون أحد الشيئين مختلطا بالآخر، كقوله تعالى: " اتقوا الله وكونوا مع الصادقين"، وقوله تعالى: " محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار "، وقوله تعالى: " والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم "، ولفظ " مع " جاءت في القرآن عامة وخاصة، فالعامة في هذه الآية وفي آية المجادلة: " ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم "، فافتتح الكلام بالعلم، وختمه بالعلم، ولهذا قال ابن عباس و الضحاك و سفيان الثوري و أحمد بن حنبل : هو معهم بعلمه.
كيف نحظى بالقرب من الله عزوجل
إن كثرة الأولاد والأموال لا تقرب إلى الله ، بل ربما كانت أعظم الملهيات والصوارف عن ذكر الله وطاعته والجهاد في سبيله ، وفي هذا يقول الحق سبحانه ( وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحاً فأؤلئك لهم جزاء الضعف وهم في الغرفات آمنون ) [ سبأ: 37]، ولا تنال منزلة القرب إلا بالإيمان وصالح الأعمال ، يقول سبحانه في الحديث القدسي : ( وما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إلى مما افترضته عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي عليها ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه ) رواه البخاري (6136).
قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله في قوله تعالى ( واسجد واقترب ) (واسجد لربك واقترب منه في السجود وغيره من أنواع الطاعات ، والقربات فإنها كلها تدني من رضاه وتقرب منه )
الصلاة بساط القرب
إن الصلاة هي وسيلة القرب الكبرى ، وليس بين العبد وبين ذلك إلا أن يقبل على الله بوجهه ولا يلتفت ، ثم يسجد فيزداد قرباً ، ( وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب ) [ العلق :19 ] فالصلاة أعظم قربة إلى اللَّه حيث وجه إليها الرسول صلى الله عليه وسلم من أول الأمر وقال صلى الله عليه وسلم : ( أقرب ما يكون العبد إلى الله وهو ساجد ) .
إن لحظات السجود والقرب من الله هي ساعات كرم الله وبركته وعطائه الذي لا حدود له ، ولا قيود ، تهتبل فيها الفرصة بالدعاء والطلب ، وتنثر فيها كنانة القلب بما فيه من أشواق ومطالب . قال صلى الله عليه وسلم : ( أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا من الدعاء فقمن أن يستجاب لكم ) رواه مسلم . وقال الله سبحانه (واسجد واقترب ) . وفي الحديث أن رجلاً قال يا رسول الله أسالك مرافقتك في الجنة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ( أو غير ذلك ؟ ) فقال هو ذاك . فقال : ( فأعني على نفسك بكثرة السجود ). رواه مسلم . وفي الحديث : ( ما من مسلم يسجد لله سجدة إلا رفعه الله بها درجة وحط عنه خطيئة ) رواه مسلم عن أبي الدرداء . وقال صلى الله عليه وسلم : ( إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي ويقول يا ويلاه أمر هذا بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت أنا بالسجود فعصيت فلي النار ) أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة . ويروى عن علي بن عبد الله بن عباس أنه كان يسجد في كل يوم ألف سجدة وكانوا يسمونه السجاد
الذكر والدعاء
إن ساعات الذكر ، ولحظات المناجاة والمناداة والابتهال هي لحظات قرب من الله ودواعي رحمته وإجابته ، قال صلى الله عليه وسلم ( إن الذي تدعون أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته ) متفق عليه ، رواه البخاري (6236 ) ومسلم (2704) . وقال صلى الله عليه وسلم : ( أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملئه ) رواه البخاري ( 6970 )ورواه مسلم (2675)، وذكر الله يوجب القرب من الله عز وجل والزلفى لديه ،ومن أكرم الخلق على الله تعالى من المتقين من لا يزال لسانه رطبا بذكره وإذا جعل المؤمن ذكر الله شعاره أثمر القرب من الله والتقنع بثوب الحياء منه وإجلاله ، وهاج في قلبه هائج الهيبة والمراقبة .
مشهد القرب في عشية عرفة
عن عائشة رضي الله عنها مرفوعاً : ( ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة ، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول ما أراد هؤلاء ). رواه مسلم (1348) . أي شيء أراد هؤلاء حيث تركوا أهلهم وأوطانهم وصرفوا أموالهم وأتعبوا أبدانهم ، إنهم أرادوا المغفرة والرضا والقرب واللقاء ومن جاء هذا الباب لا يخشى الرد فالمغفرة شيء سهلٌ يسيرٌ على الله ؛ إذ المغفرة لمن خلق من التراب ، لا يتعاظم على رب الأرباب
فإن قرب الله من عبده في القرآن نوعان :
الأول : قرب الله - سبحانه وتعالى - من داعيه بالإجابة ، ومنه قوله تعالى : ( وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان ) [البقرة :186].
والثاني : قربه من عابده بالإثابة ومن ذلك قوله ( أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ) رواه مسلم ( 482) ، و( أقرب ما يكون الرب من عبده في جوف الليل ) رواه الترمذي ( 3579 ) وهو حديث صحيح ، فهذا قربه من أهل طاعته وفى الصحيح عن أبي موسى رضي الله عنه : ( قال كنا مع النبي في سفر فارتفعت أصواتنا بالتكبير فقال يا أيها الناس اربعوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إن الذي تدعونه سميع قريب أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته ) متفق عليه ، فهذا قرب خاص بالداعي دعاء العبادة والثناء والحمد .
وهذا القرب لا ينافي كمال مباينة الرب لخلقه ، واستواءه على عرشه بل يجامعه ويلازمه ، فإنه ليس كقرب الأجسام بعضها من بعض تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ، ولكنه نوع آخر ، والعبد في الشاهد يجد روحه قريبة جداً من محبوب بينه وبينه مفاوز تتقطع فيها أعناق المطي ، ويجده أقرب إليه من جليسه كما قيل :
( ألا رب من يدنو ويزعم أنه يحبك والنائي أحبُ وأقربُ ) .
وأهل السنة أولياء رسول الله ، وورثته ، وأحباؤه الذين هو عندهم أولى بهم من أنفسهم ، وأحب إليهم منها يجدون نفوسهم أقرب إليه وهم في الأقطار النائية عنه من جيران حجرته في المدينة ، والمحبون المشتاقون للكعبة والبيت الحرام يجدون قلوبهم وأرواحهم أقرب إليها من جيرانها ومن حولها هذا مع عدم تأتي القرب منها فكيف بمن يقرب من خلقه كيف يشاء وهو مستو على ... والقصد أن هذا القرب يدعو صاحبه إلى ركوب المحبة وكلما ازداد حباً ازداد قرباً ، فالمحبة بين قربين قرب قبلها ، وقرب بعدها ، وبين معرفتين معرفة قبلها حملت عليها ودعت إليها ، ودلت عليها ، ومعرفة بعدها هي من نتائجها وآثارها .
ومن آثار معرفة اسم القريب:
الأمن والثقة : فالمؤمن يعيش بقرب الله في أنس وثقة ويقين ، وملاذ أمين ، وحصن حصين مكين ؛ لأنه في معية الله ، ومصاحبته فهو سبحانه القريب منهم في كل أحوالهم وهو الصاحب في أسفارهم حال غربتهم ووحشتهم فالله صاحبهم القريب منهم ( أنت الصاحب في السفر ) رواه مسلم ( 1342 ) ، وهو سبحانه في ذات الوقت خليفته على أهله ( والخليفة في الأهل ) ، وقد كان من دعائه عليه الصلاة والسلام عند السحر في السفر ( ربنا صاحبنا وأفضل علينا عائذاًَ بالله من النار ) رواه مسلم ( 2718 ) .

ومن آثار هذه المعرفة لهذا الاسم :
حصول السكينة والثبات : قال الله تعالى {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا }40 [ التوبة : 40] ، وقال صلى الله عليه وسلم لأبي بكر ( يا أبابكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما ) متفق عليه . فمن كان الله معه فمعه القوة العظمى التي لا تهزم ، ولقد ربى الله أصفياءه على أن يكونوا على علم بأنه معهم فلما أرسل موسى إلى فرعون الطاغية قائلاً ( اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري اذهبا إلى فرعون إنه طغى ) [طه :42] قال موسى وهارون : ( إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى قال لا تخافا إننـي معكما أسمع وأرى )[طه :45 ] وهذا دواء الخوف وعلاجه من قلوب المؤمنين ، إنه القاهر فوق عباده معنا أسمع وأرى فما يكون فرعون وجنوده وما يصنع حين يفرط أو يطغى ؟ والله معهما يسمع ويرى ) فيذهبان إلى فرعون فيخاطبانه دون خوف ولا وجل فيقولان ( إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام على من ابتع الهدى )[طه:47] ويختمان الحديث ( إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى ) [ طه:48] .
ويوحي الله إلى موسى بالسرى ، ويتبعه فرعون وجنوده ، ويقترب المشهد من نهاية وتصل المعركة ذروتها ، ويقف موسى أمام البحر ليس معهم سفين ، وماهم بمسلحين وقاربهم فرعون بجنوده شاكي السلاح يطلبونهم ، ودلائل الحال تقول كلا : لامفر ! العدو من خلفهم ، والبحر من أمامهم ويبلغ الكرب مداه ، وما هي إلا لحظات ويهجم الموت ولا مناص ولا معين ( قال أصحاب موسى إنا لمدركون )[الشعراء:61 ]فيقول موسى الذي امتلأ قلبه بربه ثقة بربه ( كلا ) لا يكون ذلك ( إن معي ربي سيهدين )[الشعراء :62] كلا بقوة وشدة لن نكون مدركين ، كلا لن نكون ضائعين ! كلا إن معي ربي سيهدين ! وفي اللحظات الأخيرة ينبثق الشعاع المنير في ليل اليأس وينفتح باب من النجاة من حيث لا يحتسبون . )
ويضطرب أبو بكر الصاحب إذ هما في الغار وهو يسمع خفق نعال المطاردين ويملكه خوف شديد على صاحبه فيقول ( لو أن أحدهم رفع قدمه رآنا) فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم الواثق بمعية الله ( لا تحزن إن الله معنا) .
ومن آثار معرفة هذا الاسم :
قرب النصر والفرج : قال صلى الله عليه وسلم ( واعلم أن النصر مع الصبر ، وأن الفرج مع الكرب ، وأن مع العسر يسراً ) رواه الترمذي ( 2516 ) وهو حديث صحيح .
إن نصر الله آت ، وفرجه قريب ، والمؤمن لا يفقد أمله مع طول الانتظار بل يظل يُرجي من القريب المجيب نصره ، وفرجه ولا يقترح عليه بل يتأدب بأدب العبد المسلّم لما أراده ربه ويأخذ بما شرع له من الأسباب .
إذا اشتملت على اليأس القلـوب *** وضاق لما به الصدر الرحيب
وأوطأت المكاره واطمـأنـت *** وأرست في أماكنها الخطـوب
ولم تر لانكشـاف الضر وجهاً *** ولا أغـنى بحيلته الأريــب
أتاك على قنـوط منك غـوث *** يمـن به اللطيف المستجيـب
وكل الحادثات إذا تنـاهــت *** فموصول بها الفرج القريـب
ولرب نازلة يضيق بها الفتى ذرعا *** وعنــد الله منها المخـرج
كملت فلما استحكمت حلقاتها *** فرجت وكان يظنها لا تفرج
ومن الآثـار :
الشوق إلى الله والأنس به : فمع كون الله هو القريب من عباده إلا أن عباده المؤمنين به المصدقين بوعده المصدقين برسله المحبين المختبين أعظم شوقاً إلى من كل قريب وكلما ازدادوا صلاحاً وقربة وسجوداً ، لاح من جماله وجلاله ما يزيدهم شوقاً وحنيناً إلى لقائه وأعظم ما يكون هذا الشوق عند لحظات الحياة الأخيرة عند مفارقة الحياة عندها يعظم شوق المؤمن ويحب لقاء الله ويرجوه .
وأبرح ما يكون الشوق يوماً إذا دنت الخيام من الخيام .
ثالثا : اسم الله الباطن
فسر معنى الاسم الجليل حديث أبو هريرة رضي الله عنه وفيه قوله صلى الله عليه وسلم حينما دعا :
( ...وأنت الظاهر فليس فوقك شيء ، وأنت الباطن فليس دونك شيء.. ) رواه مسلم .
فالظاهر قد فسره بالظهور بمعنى العلو ، والله تعالى عال على كل شيء ، وفسره بعضهم بالظهور ، بمعنى البروز : فهو الذي ظهر للعقول بحججه وبراهين وجوده وأدلة وحدانيته فهو الظاهر بالدلائل الدالة عليه ، وأفعاله المؤدية إلى العلم به ومعرفته فهو ظاهر مدرك بالعقول والدلائل ، وباطن لأنه غير مشاهد كسائر الأشياء المشاهدة في الدنيا عز وجل عن ذلك وتعالى علواً كبيراً .
والله سبحانه هو الظاهر بحكمته وخلقه وصنائعه وجميع نعمه التي أنعم بها فلا يرى غيره ، والباطن هو المحتجب عن ذوي الألباب كنه ذاته وكيفية صفاته عز وجل .
ونسب إلى بعض العلماء تفسير الباطن بالقريب حيث قال : الباطن : أقرب من كل شيء بعلمه وقدرته وهو فوق عرشه العظيم.
وفسر الباطن بالعالم ببواطن الأمور ، فهو ذو الباطن ، وكذا هو عالم بظواهرها . قال البخاري : قال يحيى - وهو الفرّاء - "هو الظاهر على كل شيء علما ، والباطن على كل شيء علما " .
وفسر بعضهم : بأنه غير مدرَك بالحواس كالأشياء المخلوقة التي تدرك بالحواس .
وقيل : هو المحتجب عن أبصار الخلائق وأوهامهم فلا يدركه بصر ولا يحيط به وهم .
ومع أن هذه المعاني كلها صحيحة إلا أن الأولى الالتزام بالتفسير النبوي وهو خير ما يفسر به لأنه صلى الله عليه وسلم أعلم الخلق بالله تعالى . وقد قال ابن جرير :
" الظاهر على كل شيء دونه ، وهو العالي فوق كل شيء فلا شيء أعلى منه ، وهو الباطن جميع الأشياء فلا شيء أقرب إلى شيء منه " .
وذكر ابن القيم أن من جحد فوقيته فقد جحد لوازم اسمه " الظاهر " ولا يصح أن يكون الظاهر من له فوقية القَدْر فقط كما يقال الذهب فوق الفضة ؛ لأن هذه الفوقية تتعلق بالظهور بل قد يكون المفوق أظهر من الفائق فيها ، ولا يصح أن يكون القهر والغلبة فقط وإن كان سبحانه ظاهرا بالقهر والغلبة ، فله سبحانه العلو المطلق من كل وجه وهو علو الذات ، وعلو القدر ، وعلو القهر .
واسمه سبحانه الباطن : لا يقتضي السفول ، والسفول نقص هو منزه عنه ، فإنه سبحانه العلي الأعلى لا يكون قط إلا عاليا تبارك الجبار فوق سبع سماوات طباقا.
وقد ربط الظاهر بالباطن ، والظهور يقارنه العلو فكلما كان الشيء أعلى كان أظهر ، وكل من العلو والظهور يتضمن المعنى الآخر ولذا قال صلى الله عليه وسلم :
" فليس فوقك شيء " ولم يقل : " ليس أظهر منك شيء " ؛ لأن الظهور يتضمن العلو والفوقية .
وفيه أيضا إحاطة الله تعالى بالعالم وعظمته سبحانه واضمحلال كل شيء عند عظمته ، هو الباطن سبحانه يدل على اطلاعه على السرائر والضمائر والخبايا ودقائق الأشياء
فهو معنا اينما كنا حاضر وظاهر و باطن سميع و بصير .
قال تعالى : (( هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم )) [ الحديد :3 ].
وفي صحيح مسلم - (ج 17 / ص 352) :
- حَدَّثَنِى زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ سُهَيْلٍ قَالَ كَانَ أَبُو صَالِحٍ يَأْمُرُنَا إِذَا أَرَادَ أَحَدُنَا أَنْ يَنَامَ أَنْ يَضْطَجِعَ عَلَى شِقِّهِ الأَيْمَنِ ثُمَّ يَقُولُ « اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَوَاتِ وَرَبَّ الأَرْضِ وَرَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَىْءٍ فَالِقَ الْحَبِّ وَالنَّوَى وَمُنْزِلَ التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْفُرْقَانِ أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ كُلِّ شَىْءٍ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهِ اللَّهُمَّ أَنْتَ الأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَىْءٌ وَأَنْتَ الآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَىْءٌ وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَىْءٌ وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَىْءٌ اقْضِ عَنَّا الدَّيْنَ وَأَغْنِنَا مِنَ الْفَقْرِ ». وَكَانَ يَرْوِى ذَلِكَ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم-.
قال ابن جرير الطبري رحمه الله في تفسيره - (ج 23 / ص 168)
(( وقوله:( وَالظَّاهِرُ ) يقول: وهو الظاهر على كل شيء دونه، وهو العالي فوق كل شيء، فلا شيء أعلى منه.( وَالْبَاطِنُ ) يقول: وهو الباطن جميع الأشياء، فلا شيء أقرب إلى شيء منه، كما قال:( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ )) .
وقال ابن قيم الجوزية رحمه الله في طريق الهجرتين - (ج 1 / ص 47) :
(( فأوليته سبقه لكل شيء وآخريته بقاؤه بعد كل شيء وظاهريته سبحانه فوقيته وعلوه على كل شيء ومعنى الظهور يقتضي العلو وظاهر الشيء هو ما علا منه وأحاط بباطنه وبطونه سبحانه إحاطته بكل شيء بحيث يكون أقرب إليه من نفسه وهذا قرب غير قرب المحب من حبيبه هذا لون وهذا لون فمدار هذه الأسماء الأربعة على الإحاطة وهي إحاطتان زمانية ومكانية فإحاطة أوليته وآخريته بالقبل والبعد فكل سابق انتهى إلى أوليته وكل آخر انتهى إلى آخريته فأحاطت أوليته وآخريته بالأوائل والأواخر وأحاطت ظاهريته وباطنيته بكل ظاهر وباطن فما من ظاهر إلا والله فوقه وما من باطن إلا والله دونه وما من أول إلا والله قبله وما من آخر إلا والله بعده فالأول قدمه والآخر دوامه وبقاؤه والظاهر علوه وعظمته والباطن قربه ودنوه فسبق كل شيء بأوليته وبقي بعد كل شيء بآخريته وعلا على كل شيء بظهوره ودنا من كل شيء ببطونه فلا توارى منه سماء سماء ولا أرض أرضا ولا يحجب عنه ظاهر باطنا بل الباطن له ظاهر والغيب عنده شهادة والبعيد منه قريب والسر عنده علانية فهذه الأسماء الأربعة تشتمل على أركان التوحيد فهو الأول في آخريته والآخر في أوليته والظاهر في بطونه والباطن في ظهوره لم يزل أولا وآخرا وظاهرا وباطن )).


وقال البغوي في تفسيره - (ج 8 / ص 29):
(( { سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ هُوَ الأوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ } يعني هو "الأول" قبل كل شيء بلا ابتداء، كان هو ولم يكن شيء موجودًا و"الآخر" بعد فناء كل شيء، بلا انتهاء تفنى الأشياء ويبقى هو، و"الظاهر" الغالب العالي على كل شيء و"الباطن" العالم بكل شيء، هذا معنى قول ابن عباس)) .
و في كتاب التوحيد لابن منده - (ج 1 / ص 289):
((ومعنى الباطن : المحتجب عن ذوي الألباب كنه ذاته وكيفية صفاته عز وجل )).
وقال النووي في شرح مسلم - (ج 9 / ص 79) :
(( وَالْبَاطِن : الْمُحْتَجِب عَنْ خَلْقه ، وَقِيلَ : الْعَالِم بِالْخَفِيَّاتِ )).
وفي الشريعة للآجري - (ج 1 / ص 282) :
(( قال محمد بن الحسين رحمه الله تعالى : ومما يحتج به الحلولية مما يلبسون به على من لا علم معه : قول الله عز وجل : هو الأول والآخر والظاهر والباطن .وقد فسر أهل العلم هذه الآية : هو الأول : قبل كل شيء من حياة وموت ، والآخر : بعد كل شيء بعد الخلق ، وهو الظاهر : فوق كل شيء ، يعني ما في السموات ، وهو الباطن : دون كل شيء يعلم ما تحت الأرضين ، دل على هذا آخر الآية : وهو بكل شيء عليم ، كذا فسره مقاتل بن حيان و مقاتل بن سليمان ، وبينت ذلك السنة فيما :
حدثني أبو عبد الله أحمد بن محمد بن شاهين قال : حدثنا يوسف بن موسى القطان قال : حدثنا جرير عن مطرف ، عن الشعبي ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : اللهم أنت الأول ، فليس قبلك شيء ، وأنت الآخر، فليس بعدك شيء وأنت الظاهر ، فليس فوقك شيء ، وأنت الباطن ، فليس دونك شيء)) .
وقال البراك في شرح الواسطية (ج 1 / ص 43):
(( وهو الباطن الذي ليس دونه شيء فبصره نافذ لجميع المخلوقات وسمعه واسع لجميع الأصوات وعلمه محيط بكل شيء إذًا لا يحجب سمعه شيء ولا يحجب بصره حجاب بصره نافذ يرى عباده وعلمه محيط بكل شيء)).
وفي شرح العقيدة الطحاوية - عبدالعزيز الراجحي - (ج 1 / ص 18):
(( وهو الباطن الذي لا يحجبه شيء من المخلوقات لا يخفى عليه شيء يرى كل شيء، ويبصر كل شيء -سبحانه وتعالى-، ولا يخفى عليه شيء من خلقه؛ من أعمالهم وسكناتهم وحركاتهم )).
أما عن أهمية العلم باسم الله الباطن
فيقول بن القيم عن الاسماء الاربعه الوارده
فى قوله عز وجل ( هُوَ الأوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ } فى كتابه القيم (طريق الهجرتين وباب السعادتين)
"....والله سبحانه لم يجعل لرجل من قلبين فى جوفه،
فبقدر ما يدخل القلب من همّ وإِرادة وحبّ يخرج منه همّ وإِرادة وحبّ يقابله،
فهو إِناءٌ واحد والأَشربة متعددة، فأَى شراب ملأَه لم يبق فيه موضع لغيره، وإِنما يمتليء الإناءُ بأَعلى الأَشربة إِذا صادفه خالياً،
فأَمّا إِذا صادفه ممتلئاً من غيره لم يساكنه حتى يخرج ما فيه ثمّ يسكن موضعه، كما قال بعضهم:
أَتانى هواها قبل أَن أَعرف الهوى فصـادف قلبـاً خاليــاً فتمكنـا
ففقر صاحب هذه الدرجة تفريغه إِنائه من كل شراب غير شراب المحبة والمعرفة، لأَنّ كلّ شراب فمسكر ولا بدّ، و((ما أَسكر كثيره فقليله حرام))،
وأَين سكر الهوى والدنيا من سكر الخمر، وكيف يوضع شراب التسليم- الذى هو أَعلى أَشربة المحبين- فى إِناءٍ ملآن بخمر الدنيا والهوى ولا يفيق من سكره ولا يستفيق،
ولو فارق هذا السكر القلب لطار بأَجنحة الشوق إِلى الله والدار الآخرة،
ولكن رضى المسكين بالدون، وباع حظّه من قرب الله ومعرفته وكرامته بأَخسّ الثمن صفقة خاسر مغبون، فسيعلم أيّ حظّ أَضاع إِذا فاز المحبّون، وخسر المبطلون.
وإِذا كان التلوّث بالأَعراض قيداً يقيّد القلوب عن سفرها إِلى بلد حياتها ونعيمها الذى لا سكن لها غيره، ولا راحة لها إِلّا فيه، ولا سرور لها إِلّا فى منازله، ولا أَمن لها إِلّا بين أَهله،
فكذلك الذى باشر قلبه روح التألّه، وذاق طعم المحبة، وآنس نار المعرفة، له أَعراض دقيقة حالية
تقيّد قلبه عن مكافحة صريح الحقّ، وصحّة الاضطرار إِليه والفناءِ التام به، والبقاءِ الدائم بنوره الذى هو المطلوب من السير والسلوك، وهو الغاية الّتي شمر إِليها السالكون، والعلم الّذي أَمَّه العابدون ودندن حوله العارفون،
فجميع ما يحجب عنه أَو يقيد القلب نظره وهمّه يكون حجاباً يحجب الواصل ويوقف السالك وينكس الطالب،
فالزهد فيه على أَصحاب الهمم العلية متعيّن تعيّن الواجب الذى لا بدّ منه، وهو كزهد السالك إِلى الحجّ في الظلال والمياه التى يمر بها فى المنازل، فالأَول مقيّد عن الحقائق برؤية الأعراض، والثاني مقيّد عن النهايات برؤية الأَحوال، فتقيّد كل منهما عن الغاية المطلوبة، وترتّب على هذا القيد عدم النفوذ، وذلك مؤخّر مخلّف.
و إذا عرف العبد هذا وانكشف له [علمه] تعيّن عليه الزهد في الأَحوال والفقر منها، كما تعيّن عليه الزهد فى المال والشرف وخلوّ قلبه منهما.
ولما كان موجب الدرجة الأولى من الفقر الرجوع إِلى الآخرة، فأَوجب الاستغراق فى هم الآخرة نفض اليدين من الدنيا ضبطاً أَو طلباً، وإِسكات اللسان عنها مدحاً أَو ذمّاً.
وكذلك كان موجب هذه الدرجة الثانية الرجوع إِلى فضل الله [عز وجل] ومطالعة سبقه الأَسباب والوسائط،
فبفضل الله ورحمته وجدت منه الأَقوال الشريفة، والمقامات العلية، وبفضله ورحمته وصلوا إِلى رضاه ورحمته، وقربه وكرامته وموالاته
وكان سبحانه هو الأَول فى ذلك كله كما أَنه الأَول فى كل شيء، وكان هو الآخر فى ذلك كما هو الآخر فى كل شيء، فمن عبده باسمه الأَول والآخر حصلت له حقيقة هذا الفقر،
فإن انضاف إِلى ذلك عبوديته باسمه الظاهر والباطن فهذا هو العارف الجامع لمتفرقات التعبد ظاهراً وباطناً فعبوديّته باسمه الأَول تقتضى التجرّد من مطالعة الأسباب والوقوف عليها والالتفات إِليها، وتجريد النظر إِلى مجرد سبق فضله ورحمته، وأَنه هو المبتديء بالإِحسان من غير وسيلة من العبد، إِذ لا وسيلة له فى العدم قبل وجوده، وأَيّ وسيلة كانت هناك، وإِنما هو عدم محض، وقد أَتى عليه [حين] من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً، فمنه سبحانه الإِعداد ومنه الإِمداد وفضله سابق على الوسائل، والوسائل من مجرّد فضله وجوده لم تكن بوسائل أُخرى.
فمن نزَّل اسمه الأَول على هذا المعنى أَوجب له فقراً خاصاً وعبودية خاصة،
وعبوديته باسمه الآخر تقتضى أيضاً [عدم ركونه ووثوقه بالأسباب والوقوف معها فإنّها تعدم لا محالة وتنقضى] بالآخرية، ويبقى الدائم الباقي بعدها، فالتعلّق بها تعلّق بما يعدم وينقضي، والتعلّق بالآخر عز وجل تعلّق بالحيّ الّذى لا يموت ولا يزول فالمتعلق به حقيق أَن لا يزول ولا ينقطع، بخلاف التعلق بغيره مما له آخر يفنى به، كذا نظر العارف إِليه بسبق الأَولية حيث كان قبل الأَسباب كلها، فكذلك نظره إِليه ببقاء الآخرية حيث يبقى بعد الأسباب كلها، فكان الله ولم يكن شيء غيره، وكل شيء هالك إلا وجهه.
فتأمل عبودية هذين الاسمين وما يوجبانه من صحّة الاضطرار إِلى الله وحده ودوام الفقر إِليه دون كل شيءٍ سواه، وأَن الأَمر ابتدأَ منه وإِليه يرفع، فهو المبتديء بالفضل حيث لا سبب ولا وسيلة، وإِليه ينتهى الأمر حيث تنتهي الأَسباب والوسائل فهو أَول كل شيء وآخره، وكما أَنه رب كل شيء وفاعله وخالقه وبارئه، فهو إلهه وغايته التى لا صلاح له ولا فلاح ولا كمال إِلا بأَن يكون هو غايته كما أنه لا وجود له إلا بكونه وحده هو ربه وخالقه وكذلك لا كمال له ولا صلاح إلا بكونه تعالى وحده هو غايته وحده ونهايته ومقصوده، فهو الأَول الذى ابتدأَت منه المخلوقات، والآخر الذى انتهت إِليه عبوديتها وإِرادتها ومحبتها، فليس وراءَ الله شيء يقصد ويعبد ويتأَله كما أَنه ليس قبله شيء يخلق ويبرأَ، فكما كان واحداً فى إِيجادك فاجعله واحداً فى تأَلهك وعبوديتك، وكما ابتدأ وجودك وخلقك منه فاجعله نهاية حبك وإِرادتك وتأَلهك إِليه لتصح لك عبوديته باسمه الأَول والآخر، وأَكثر الخلق تعبدوا له باسمه الأَول، وإِنما الشأْن فى التعبد له باسمه الآخر فهذه عبودية الرسل وأَتباعهم، فهو رب العالمين وإِله المرسلين سبحانه وبحمده. وأَما عبوديته باسمه الظاهر فكما فسره النبى بقوله: ((وأَنتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيءٌ، وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيء)).
فإِذا تحقق العبد علوه المطلق على كل شيء بذاته، وأَنه ليس فوقه شيء البتة، وأَنه قاهر فوق عباده يدبر الأَمر من السماءِ إِلى الأَرض ثم يعرج إِليه {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطّيّبُ وَالْعَمَلُ الصّالِحُ يَرْفَعُهُ}* [فاطر: 10]، صار لقلبه [أَملاً] يقصده، ورباً يعبده، وإِلهاً يتوجه إِليه. بخلاف من لا يدرى أَين ربه فإِنه ضائع مشتت القلب ليس لقلبه قبلة يتوجه نحوها ولا معبود يتوجه إِليه قصده. وصاحب هذه الحال إِذا سلك وتأله وتعبد طلب قلبه إِلهاً يسكن إِليه ويتوجه إِليه، وقد اعتقد أَنه ليس فوق العرش شيء إِلا العدم، وأَنه ليس فوق العالم إِله يعبد ويصلى له ويسجد، وأَنه ليس على العرش من يصعد إِليه الكلم الطيب ولا يرفع إِليه العمل الصالح، جال قلبه فى الوجود جميعهُ فوقع فى الاتحاد ولا بد، وتعلق قلبه بالوجود المطلق السارى فى المعينات، فاتخذ إِلهه من دون الإِله الحق وظن أَنه قد وصل إِلى عين الحقيقة، وإِنما تأَله وتعبد لمخلوق مثله، أو لخيال نحته بفكره واتخذه إِلهاً من دون الله سبحانه، وإِله الرسل وراءَ ذلك كله: {إِنّ رَبّكُمُ اللّهُ الّذِي خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتّةِ أَيّامٍ ثُمّ اسْتَوَىَ عَلَى الْعَرْشِ يُدَبّرُ الأمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكّرُونَ * إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللّهِ حَقّاً إِنّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ}* [يونس: 3- 4] وقال تعالى: {اللّهُ الّذِي خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتّةِ أَيّامٍ ثُمّ اسْتَوَىَ عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مّن دُونِهِ مِن وَلِيّ وَلاَ شَفِيعٍ أَفَلاَ تَتَذَكّرُونَ * يُدَبّرُ الأمْرَ مِنَ السّمَآءِ إِلَى الأرْضِ ثُمّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مّمّا تَعُدّونَ * ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرّحِيمُ * الّذِيَ أَحْسَنَ كُلّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِن طِينٍ * ثُمّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مّن مّآءٍ مّهِينٍ * ثُمّ سَوّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ قَلِيلاً مّا تَشْكُرُونَ}* [السجدة: 4- 9].
فقد تعرف سبحانه إِلى عباده بكلامه معرفة لا يجحدها إِلا من أَنكره سبحانه، وإِن زعم أَنه مقربه. والمقصود أَن التعبد باسمه الظاهر يجمع القلب على المعبود، ويجعل له رباً يقصده وصمداً يصمد إِليه فى حوائجه وملجأً يلجأُ إِليه فإِذا استقر ذلك فى قلبه وعرف ربه باسمه الظاهر استقامت له عبوديته وصار له معقل وموئل يلجأُ إِليه ويهرب إِليه ويفر كل وقت إِليه. وأَما تعبده باسمه الباطن فأَمر يضيق نطاق التعبير عن حقيقته، ويكلّ اللسان عن وصفه، وتصطلم الإِشارة إِليه وتجفو العبارة عنه، فإِنه يستلزم معرفة بريئة من شوائب التعطيل مخلصة من فرث التشبيه، منزهة عن رجس الحلول والاتحاد وعبارة مؤدية للمعنى كاشفة عنه، وذوقاً صحيحاً سليماً من أَذواق أهل الانحراف. فمن رزق هذا فهم معنى اسمه الباطن وصح له التعبد به.
وسبحان الله كم زلت فى هذا المقام أَقدام وضلت فيه أَفهام، ونظم فيه الزنديق بلسان الصديق، فاشتبه فيه إِخوان النصارى بالحنفاء المخلصين، لنبو الأَفهام عنه وعزة تخلص الحق من الباطل فيه، والتباس ما فى الذهن بما فى الخارج
إِلا على من رزقه الله بصيرة فى الحق، ونوراً يميز به بين الهدى والضلال، وفرقاناً يفرق به بين الحق والباطل، ورزق مع ذلك اطلاعاً على أَسباب الخطأْ وتفرق الطرق ومثار الغلط، فكان له بصيرة فى الحق والباطل، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاءُ والله ذو الفضل العظيم.
وباب هذه المعرفة والتعبد هو معرفة إِحاطة الرب [تبارك وتعالى] بالعالم وعظمته، وأَن العوالم كلها فى قبضته، وأَن السموات السبع والأَرضين السبع فى يده كخردلة فى يد العبد، قال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنّ رَبّكَ أَحَاطَ بِالنّاسِ}* [الإسراء: 60]، وقال: {واللهُ مِنْ وَرَآئِهِمْ مُحِيطُ}* [البروج: 20]، ولهذا يقرن سبحانه بينَ هذين الاسمين الدالين على هذين المعنيين: اسم العلو الدال على أَنه الظاهر وأَنه لا شيء فوقه، واسم العظمة الدال على الإِحاطة وأَنه لا شيء دونه، كما قال تعالى: {وَهُوَ الْعَلِىُّ الْعَظِيمُ}* [البقرة: 255] [الشورى: 4]، وقال تعالى: {وَهُوَ الْعَلِىُّ الْكَبِيرُ}* [سبأ: 23]، وقال: {وَللّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلّواْ فَثَمّ وَجْهُ اللّهِ إِنّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}* [البقرة: 115]، هو تبارك وتعالى كما أَنه العالى على خلقه بذاته فليس فوقه شيء، فهو الباطن بذاته فليس دونه شيء، بل ظهر على كل شيء فكان فوقه، وبطن فكان أَقرب إِلى كل شيء من نفسه، وهو محيط به حيث لا يحيط الشيء بنفسه وكل شيء فى قبضته وليس شيء فى قبضة نفسه، فهذا أَقرب لإِحاطة العامة.
وأما القرب المذكور فى القرآن والسُّـنَّة فقرب خاص من عابديه وسائليه وداعيه، وهو من ثمرة التعبد باسمه الباطن قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدّاعِ إِذَا دَعَانِ}* [البقرة: 186]، فهذا قربه من داعيه، وقال تعالى: {إِنّ رَحْمَةَ اللّهِ قَرِيبٌ مّنَ الْمُحْسِنِينَ}* [الأعراف: 56]، فوجد الخبر وهو قريب عن لفظ الرحمة وهى مؤنثة [إيذاناً] بقربه تعالى من المحسنين، فكأنه قال: إِن الله برحمته قريب من المحسنين. وفى الصحيح عن النبى قال: ((أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ))، و((أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الرَّبُّ مِنْ عَبْدِهِ فِى جَوْفِ اللَّيْلِ))، فهذا قرب خاص غير قرب الإِحاطة وقرب البطون. وفى الصحيح من حديث أَبى موسى أَنهم كانوا مع النبى فى سفر، فارتفعت أصواتهم بالتكبير فقال: ((أَيُّهَا النَّاسُ ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسكُمْ [فإنكم] لا تَدْعُونَ أَصمَّ وَلا غاَئِباً، إِنَّ الَّذِى تَدْعُونَهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ، أَقْرَبُ إِلَى أَحدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ))، فهذا قربه من داعيه وذاكره، يعنى فأى حاجة بكم إِلى رفع الأَصوات وهو لقربه يسمعها وإِن خفضت، كما يسمعها إِذا رفعت، فإِنه سميع قريب. وهذا القرب هو من لوازم المحبة فكلما كان الحب أَعظم كان القرب أَكثر، وقد استولت محبة المحبوب على قلب محبه بحيث يفنى بها عن غيرها، ويغلب محبوبه على قلبه حتى [كأنه يراه ويشاهده]. إن لم يكن عنده معرفه صحيحة بالله وما يجب له و يستحيل عليه وإِلا طرق باب الحلول إن لم يلجه، وسببه ضعف تمييزه وقوة سلطان المحبة، واستيلاءُ المحبوب على قلبه بحيث يغيب عن ملاحظة سواه، وفى مثل هذه الحال يقول: سبحانى، أَو: ما فى الجبة إِلا الله. ونحو هذا من الشطحات التى نهايتها أَن يغفر له ويعذر لسكره وعدم تمييزه فى تلك الحال. فالتعبد بهذا الاسم هو التعبد بخالص المحبة وصفو الوداد، وأَن يكون الإله أَقرب إِليه من كل شيء وأَقرب إِليه من نفسه، مع كونه ظاهراً ليس فوقه شيء، ومن كيف ذهنه وغلظ طبعه عن فهم هذا فليضرب عنه صفحاً إلى ما هو أَولى به، فقد قيل:
إِذا لَمْ تَسْتَطعْ شَيئاً فَدَعْه وجاوزه إِلى ما تستطيـع
فمن لم يكن له ذوق من قرب المحبة، ومعرفة بقرب المحبوب من محبة غاية القرب، وإِن كان بينهما غاية المسافة- ولا سيما إِذا كانت المحبة من الطرفين، وهى محبة بريئة من العلل والشوائب والأَعراض القادحة فيها- فإِن المحب كثيراً ما يستولى محبوبه على قلبه وذكره ويفنى عن غيره ويرق قلبه وتتجرد نفسه، فيشاهد محبوبه كالحاضر معه القريب إِليه وبينهما من البعد ما بينهما، وفى هذه الحال يكون فى قلبه وجوده العلمى، وفى لسانه وجوده اللفظى، فيستولى هذا الشهود عليه ويغيب به، فيظن أَن فى عينه وجوده الخارجى للغلبة حكم القلب والروح، كما قيل:
خيالك فى عينى وذكرك فى فمى ومثواك فى قلبـى فأَين تغيب
هذا ويكون ذلك المحبوب بعينه بينه وبين عدوه من البعد وما بينهما وإِن قربت الأَبدان وتلاصقت الديار. والمقصود أَن المثال العلمى غير الحقيقة الخارجية وإِن كان مطابقاً لها لكن المثال العلمى محله القلب والحقيقة الخارجية محلها الخارج فمعرفة هذه الأَسماءِ الأَربعة وهى: الأَول، والآخر، والظاهر، والباطن هى أَركان العلم والمعرفة، فحقيق بالعبد أَن يبلغ فى معرفتها إِلى حيث ينتهى به قواه وفهمه.
واعلم أَن لك أَنت أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً، بل كل شيء فله أَول وآخر وظاهر وباطن، حتى الخطرة واللحظة والنفس وأَدنى من ذلك وأكثر. فأَولية الله عَزَّ وجَلَّ سابقة على أَولية كل ما سواه، وآخريته ثابتة بعد آخرية كل ما سواه فأَوليته سبقه لكل شيء، وآخريته بقاؤه بعد كل شيء، وظاهريته سبحانه فوقيته وعلوه على كل شيء، ومعنى الظهور يقتضى العلو، وظاهر الشيء هو ما علا منه وأحاط بباطنه. وبطونه سبحانه إِحاطته بكل شيء [بحيث يكون أقرب إليه من نفسه وهذا قرب غير قرب المحب] من حبيبه، هذا لون وهذا لون. فمدار هذه الأَسماءِ الأَربعة [على الإحاطة وهى إحاطتان زمانيه ومكانيه فأحاطت] أَوليته وآخريته بالقبل والبعد، فكل سابق انتهى إِلى أَوليته وكل آخر انتهى إِلى آخريته فأَحاطت أَوليته وآخريته بالأَوائل والأَواخر، وأَحاطت ظاهريته وباطنيته بكل ظاهر وباطن، فما من ظاهر إلا والله فوقه، وما من باطن إِلا والله [دونه] [وما من أول إلا والله قبله وما من آخر إلا والله بعده] فالأَول قدمه، والآخر دوامه وبقاؤه والظاهر علوه وعظمته، والباطن قربه ودنوه. فسبق كل شيء بأَوليته وبقى بعد كل شيء بآخريته، وعلا على كل شيء بظهوره، ودنا من كل شيء ببطونه [فلا توارى منه سماء سماء ولا أرض أرضا]، ولا يحجب عنه ظاهر باطن بل الباطن له ظاهر، والغيب عنده شهادة، والبعيد منه قريب، والسر عنده علانية، فهذه الأَسماءُ الأَربعة تشتمل على أَركان التوحيد، فهو الأَول فى آخريته والآخر فى أَوليته، والظاهر فى بطونه والباطن فى ظهوره، لم يزل أَولاً وآخراً وظاهراً وباطناً.
والتعبد بهذه الأَسماءِ رتبتان
الرتبة الأولى أَن تشهد الأَولية منه تعالى فى كل شيء والآخرية بعد كل شيء والعلو والفوقية فوق كل شيء والقرب والدنو دون كل شيء، فالمخلوق يحجبه مثله عما هو دونه فيصير الحاجب بينه وبين المحجوب، والرب جل جلاله ليس دونه شيء أَقرب إِلى الخلق منه
والمرتبة الثانية من التعبد أَن يعامل كل اسم بمقتضاه، فيعامل سبقه تعالى بأَوليته لكل شيء [وسبقه] بفضله وإِحسانه الأَسباب كلها بما يقتضيه ذلك من إِفراده وعدم الإِلتفات إِلى غيره والوثوق بسواه والتوكل على غيره، فمن ذا الذى شفع لك فى الأَزل حيث لم تكن شيئاً مذكوراً حتى سماك باسم الإسلام، ووسمك بسمة الإِيمان، وجعلك من أَهل قبضة اليمين، وأَقطعك فى ذلك الغيب عمالات المؤمنين، فعصمك عن العبادة للعبيد، وأَعتقك من التزام الرق لمن له شكل ونديد، ثم وجه وجهة قلبك إِليه [تبارك وتعالى] دون ما سواه، فاضرع إِلى الذى عصمك من السجود للصنم، وقضى لك بقدم الصدق فى القدم، أَن يتم عليك نعمة هو ابتدأَها وكانت أَوليتها منه بلا سبب منك، واسمُ بهمتك عن ملاحظة الاختيار ولا تركنن إِلى الرسوم والآثار، ولا تقنع بالخسيس الدون، وعليك بالمطالب العالية والمراتب السامية التى لا تنال إِلا [بطاعة الله. فإن الله عز وجل قضى أن لا ينال ما عنده إلا] بطاعته، ومن كان لله كما يريد كان الله له فوق ما يريد، فمن أَقبل إِليه تلقاه من بعيد ومن تصرف [بحوله] وقوته أَلان له الحديد، ومن ترك لأَجله أَعطاه فوق المزيد، ومن أَراد مراده الدينى أَراد ما يريد. ثم اسم بسرك إِلى المطلب، واقصر حبك وتقربك على من سبق فضله وإِحسانه إِليك كل سبب منك، بل هو الذى جاد عليك بالأسباب، وهيأَ لك وصرف عنك موانعها وأَوصلك بها إلى غايتك المحمودة. فتوكل عليه وحده وعامله وحده [وآثر رضاه وحده. وأجعل حبه ومرضاته هو كعبة قلبك التى لا تزال طائفاً بها . مستلماً لأركانها]، واقفاً بملتزمها، فيا فوزك ويا سعادتك إِن اطلع سبحانه على ذلك من قلبك، ماذا يفيض عليك من ملابس نعمه وخلع أفضاله: ((اللَّهُمَّ لا مانع لما أَعطيت ولا معطى لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد سبحانك وبحمدك))، ثم تعبد له باسمه الآخر بأَن تجعله وحده غايتك التى لا غاية لك سواه، ولا مطلوب لك وراءَه فكما انتهت إِليه الأَواخر، وكان بعد كل آخر فكذلك اجعل نهايتك إِليه، فإِن إِلى ربك المنتهى، إِليه انتهت الأسباب والغايات فليس وراءَه مرمى ينتهى إِليه. وقد تقدم التنبيه على ذلك وعلى التعبد باسمه الظاهر. وأَما التعبد باسمه الباطن، فإِذا شهدت إِحاطته بالعوالم وقرب العبيد منه وظهور البواطن له وبدوِّ السرائر له وأَنه لا شيء بينه وبينها فعامله بمقتضى هذا الشهود، وطهر له سريرتك فإِنها عنده علانية وأَصلح له غيبك فإِنه عنده شهادة وزكِّ له باطنك فإِنه عنده ظاهر.
فانظر كيف كانت هذه الأَسماءُ الأَربعة جماع المعرفة بالله، وجماع العبودية له. فهنا وقفت شهادة العبد مع فضل خالقه ومنته فلا يرى لغيره شيئاً إِلا به وبحوله وقوته، وغاب بفضل مولاه الحق عن جميع ما منه هو مما كان يستند إِليه أَو يتحلى به أَو يتخذه عقدة أَو يراه ليوم فاقته أَو يعتمد عليه فى [مهم] من مهماته، فكل ذلك من قصور نظره وانعكاسه عن الحقائق والأَصول إِلى الأَسباب والفروع كما هو شأَن الطبيعة والهوى وموجب الظلم والجهل، والإِنسان ظلوم جهول فمن جلى الله سبحانه صدأَ بصيرته وكمَّل فطرته وأوقفه على مبادئ الأُمور وغاياتها ومناطها ومصادرها ومواردها أَصبح كمفلس حقاً من علومه وأَعماله وأَحواله وأَذواقه يقول: أَستغفر الله من علمى ومن عملى، أَى من انتسابى إِليهما وغيبتى بهما عن فضل من ذكرنى بهما وابتدأَنى بإعطائهما من غير تقدم سبب منى يوجب ذلك. فهو لا يشهد غير فضل مولاه وسبق منته ودوامه، فيثيبه مولاه على هذه الشهادة العالية بحقيقة الفقر الأَوسط بين الفقرين الأَدنى والأَعلى ثوابين: أَحدهما الخلاص من رؤية الأَعمال حيث كان يراها ويمتدح بها ويستكثرها فيستغرق بمطالعة الفضل غائباً عنها ذاهباً عنها فانياً عن رؤيتها، الثواب الثانى أَن يقطعه عن شهود الأَحوال- أى عن شهود نفسه فيها متكثرة بها- فإِن الحال محله الصدر والصدر بيت القلب والنفس، فإِذا نزل العطاءُ فى الصدر للقلب وثبتت النفس لتأْخذ نصيبها من العطاءِ فتتمدح به وتدل به وتزهو وتستطيل وتقرر إِنيتها لأَنها جاهلة ظالمة وهذا مقتضى الجهل [والظلم]. فإِذا وصل إِلى القلب نور صفة المنة، وشهد معنى اسمه المنان، وتجلى سبحانه على قلب عبده بهذا الاسم مع اسمه الأَول، ذهل القلب والنفس به وصار العبد فقيراً إِلى مولاه بمطالعة سبق فضله الأَول، فصار مقطوعاً عن شهود أَمر أَو حال ينسبه إِلى نفسه بحيث يكون بشهادته لحاله مفصوماً مقطوعاً عن رؤية عزة مولاه وفاطره وملاحظة صفاته. فصاحب شهود الأَحوال منقطع عن رؤية منة خالقه وفضله ومشاهدة سبق الأَولية للأَسباب كلها، وغائب بمشاهدة عزة نفسه عن عزة مولاه، فينعكس هذا الأمر فى حق هذا العبد الفقير وتشغله رؤية عزة مولاه ومنته ومشاهدة سبقه بالأَولية عن حال يعتز بها العبد أَو يشرف بها. وكذلك الرجوع إلى السبق بمطالعة الفضل يمحص من أَدناس مطالعات المقامات، فالمقام ما كان راسخاً فيه، والحال ما كان عارضاً لا يدوم. فمطالعات المقامات [وشرفه] بها وكونه يرى نفسه صاحب مقام قد حققه وكمله فاستحق أَن ينسب إِليه ويوصف به مثل أَن يقال زاهد صابر خائف راج محب راض، فكونه يرى نفسه مستحقاً بأَن تضاف المقامات إِليه وبأَن يوصف بها- على وجه الاستحقاق لها- خروج عن الفقر إِلى الغنى، وتعد لطور العبودية، وجهل بحق الربوبية فالرجوع إِلى السبق بمطالعة الفضل يستغرق همة العبد ويمحصه ويطهره من مثل هذه الأَدناس، فيصير مصفَّى بنور الله [عز وجل] عن رذائل هذه الأَرجاس.


المراجع
1 - تفسير اسماء الله الحسنى للشيخ السعدى
2 - شرح اسماء الله الحسنى فى ضوء الكتاب والسنة د/ سعيد بن على بن وهف القحطانى
3 - سلسلة شرح اسماء الله وصفاته للشيخ / هانى حلمى
4 - محاضرة للشيخ فوزى السعيد ( اسم الله المحيط )
5 - النهج الاسمى فى شرح اسماء الله الحسنى د / محمد محمود النجدى
6 - كتاب مفتاح دار السعادة لابن القيم
7 - تفسير سورة الحديد د / محمد اسماعيل المقدم ( محاضرة صوتية )
8 - طريق الهجرتين وباب السعادتين لابن القيم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق